فصل: ذكر مسير إبراهيم وقتله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر مسير إبراهيم وقتله

ثم إن إبراهيم عزم على المسير فأشار أصحابه البصريون أن تقيم وترسل الجنود فيكون إذا انهزم لك جند أمددتهم بغيرهم فخيف مكانك واتقاك عدوك وجبيت الأموال وثبت وطأتك‏.‏

فقال من عنده من أهل الكوفة‏:‏ إن بالكوفة أقوامًا لو رأوك ماتوا دونك وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى‏.‏

فسار على البصرة إلى الكوفة‏.‏وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر قال‏:‏ والله ما أدري كيف أصنع‏!‏ ما في عسكري إلا ألفا رجل فرقت جندي‏:‏ مع المهدي بالري ثلاثون ألفًا ومع محمد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفًا والباقون مع عيسى بن موسى والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفًا‏.‏

ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعًا فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرةٍ فتركها وعاد‏.‏

وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري فقال له المنصور‏:‏ اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنك جمعه فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان‏!‏ فثق بما أقول‏.‏

وضم إليه غيره من القواد‏.‏

وكتب إلى المهدي يأمره بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز فسيره في أربعة آلاف فارس فوصلها وقاتل المغيرة فرجع المغيرة إلى البصرة واستباح خزيمة الأهواز ثلاثًا‏.‏

وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صيحةً فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد‏:‏

ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها وبقي المنصور على مصلاه خمسين يومًا ينام عليه وجلس عليه وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها لا غيرها ولا هجر المصلى إلا أنه كان إذا ظهر للناس لبس السواد فإذا فارقهم رجع إلى هيئته‏.‏

وأهديت إليه امرأتان من المدينة إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد فلم ينظر إليهما فقيل له‏:‏ إنهما قد ساءت ظنونهما‏.‏

فقال‏:‏ ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأس إبراهيم لي أو رأسي له‏.‏

قال الحجاج بن قتيبة‏:‏ لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلمًا عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس وعساكر إبراهيم قد عظمت وبالكوفة مائة ألف سيف بإزاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به فرأيته أحوذيًا مشمرًا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها فقام بها ولم تقعد به نفسه وإنه كما قال الأول‏:‏ نفس عصامٍ سوّدت عصاما وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكًا هماما ثم وجه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفًا وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف وقال له لما ودعه‏:‏ إن هؤلاء الخبثاء يعني المنجمين يزعمون أنك إذا ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سرًا فسمع أصوات الطنابير ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضًا فقال‏:‏ ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا‏!‏ وسمع ينشد في طريقه أبيات القطامي‏:‏ أمورٌ لو يدبّرها حليمٌ إذًا لنهى وهيّب ما استطاعا ومعصية الشقيق عليك ممّا يزيدك مرّة منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبّعه اتّباعا ولكنّ الأديم إذا تفرّى بلىً وتعيبًا غلب الصّناعا فعلموا أنه نادم على مسيره‏.‏

وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف وقيل‏:‏ كان معه في طريقه عشرة آلاف وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذي فيه عيسى ويقصد الكوفة فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان فلم يفعل‏.‏

فقيل له ليبيت عيسى‏.‏

فقال‏:‏ أكره البيات إلا بعد الإنذار‏.‏

وقال بعض أهل الكوفة ليأمره بالمسير إليها ليدعو إليه الناس وقال‏:‏ أدعوهم سرًا ثم أجهر فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان‏.‏

فاستشار بشيرًا الرحال فقال‏:‏ لو وثقنا بالذي تقول لكان رأيًا ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل إليهم المنصور الخيل فيأخذ البريء والصغير والمرأة فيكون ذلك تعرضًا للمأثم‏.‏

فقال الكوفي‏:‏ كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتقون قتل الضعيف والمرأة والصغير‏!‏ أولم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعث سراياه ليقاتل ويكون نحو هذا فقال بشير‏:‏ أولئك كفار وهؤلاء مسلمون‏.‏

وابتع إبراهيم رأيه وسرا حتى نزل باخمرى وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخًا مقابل عيسى بن موسى فأرسل إليه سلم بن قتيبة‏:‏ إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد فإن أنت لم تفعل فقد أغرى أبو جعفر عسكره فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذه بقفاه‏.‏

فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك فقالوا‏:‏ نخندق على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم‏!‏ لا والله لا نفعل‏.‏

قال‏:‏ فنأتي أبا جعفر‏.‏

قالوا‏:‏ ولم وهو في أيدينا متى أردناه فقال إبراهيم للرسول‏:‏ أتسمع فارجع راشدًا‏.‏ثم إنهم تصافوا فصف إبراهيم أصحابه صفًا واحدًا فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس فإن الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره‏.‏

فقال الباقون‏:‏ لا نصف إلا صف أهل الإسلام يعني قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيِلِهِ صَفًّا‏}‏ الآية ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فاقتتل الناس قتالًا شديدًا وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه‏.‏

فأقبل حميد منهزمًا فقال له عيسى‏:‏ الله الله والطاعة‏!‏ فقال‏:‏ لا طاعة في الهزيمة‏!‏ ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير فقيل له‏:‏ لو تنحيت عن مكانك حتى تؤوب إليك الناس فتكر بهم‏.‏

فقال‏:‏ لا أزول عن مكاني هذا أبدًا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي والله لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبدًا وقد انهزمت عن عدوهم‏!‏ وجعل يقول لمن يمر به‏:‏ أقريء أهل بيتي السلام وقل لهم لم أجد فدًا أفديكم به أعز من نفسي وقد بذلتها دونكم‏!‏ فبيناهم على ذلك لا يلوي أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان ابن علي من ظهور أصحاب إبراهيم ولا يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم فلولا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة فعادوا بأجمعهم وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة وقيل أربعمائة وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى وجاء إبراهيم سهمٌ عائر فوقع في حلقه فنحره فتنحى عن موقفه وقال‏:‏ أنزلوني فأنزلوه عن مركبه وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏ أردنا أمرًا وأراد الله غيره‏.‏

واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه فقال حميد بن قحطبة لأصحابه‏:‏ شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه فشدوا عليهم فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزوا رأسه فأتوا به عيسى فأراه ابن أبي الكزام الجعفري فقال‏:‏ نعم هذا رأسه‏.‏

فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور‏.‏

وكان قتله يوم الأثنين لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة وكان عمره ثمانيًا وأربعين سنة ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام‏.‏

وقيل‏:‏ كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم ونادى منادي إبراهيم‏:‏ ألا لا تتبعوا مدبرًا‏!‏ فرجعوا فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم وكانت الهزيمة‏.‏

وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولًا فعزم على إتيان الري فأتاه نوبخت المنجم وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الظفر لك وسيقتل إبراهيم‏!‏ فلم يقبل منه‏.‏

فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى كما قرّ عينًا بالإياب المسافر فأقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر حويزة‏.‏

وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه فلما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خد إبراهيم ثم قال‏:‏ أما والله إني كنت لهذا كارهًا‏!‏ ولكنك ابتليت بي وابتليت بك‏!‏ ثم جلس مجلسًا عامًا وأذن للناس‏.‏

فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسيء القول فيه ويذكر فيه القبيح التماسًا لرضاء المنصور والمنصور ممسك متغير لونه حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ثم قال‏:‏ أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك‏!‏ فأسفر لون المنصور وأقبل عليه وقال‏:‏ يا أبا خالد مرحبًا ها هنا‏!‏ فعلم الناس أن ذلك يرضيه فقاتلوا مثل قوله‏.‏

وقيل‏:‏ لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه وضرب حتى خمد وأمر به فجروا رجله فألقوه خارج الباب‏.‏

وقي‏:‏ ونظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكبًا فقال‏:‏ لله العجب كيف يفلتني ابن الفاعلة‏!‏ انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه‏.‏

وفيها خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة‏.‏

وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس وكان على مكة وكان على المدينة عبد الله بن الربيع وعلى الكوفة عيسى بن موسى وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي وعلى قضائها عباد بن منصور وعلى مصر يزيد بن حاتم‏.‏

وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور وسير معه حرب بن عبد الله وهو من أكابر قواده وهو صاحب الحربية ببغداد وبنى بأسفل الموصل قصرًا وسكنه فهو يعرف إلى اليوم بقصر حرب وفيه ولدت زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد وعنده يومنا هذا قرية كانت ملكًا لنا فبنينا فيها رباطًا للصوفية وقفنا القرية عليه قد جمعت كثيرًا من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها وهي من أنزه المواضع وأحسنها وأثر القصر باقٍ بها إلى الآن‏.‏

سبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور‏.‏

وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران‏.‏

والحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب وكان موته في حبس المنصور لأنه أخذه من المدينة كما ذكرناه وهو عم محمد وإبراهيم‏.‏

وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ويحيى بن الحارث الذماري وله سبعون سنة‏.‏

وإسماعيل بن أبي خالد البجلي وحبيب بن الشهيد مولى الأزد وكنيته أبو شهيد‏.‏

  ذكر انتقال المنصور إلى بغداد وكيفية بنائها

وفيها في صفر تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة السبب الباعث للمنصور على بناء مدينة بغداد ونذكر الآن بناءها‏.‏

ولما عزم المنصور على بناء بغداد شاور أصحابه وكان فيهم خالد بن برمك فأشار أيضًا بذلك وهو خطها فاستشاره في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد فقال‏:‏ لا أرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا وإنما هو على أمر دين ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب‏.‏

قال المنصور‏:‏ لا أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم‏!‏ وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه وحمل نقضه فنظر فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الحديد‏.‏

فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك‏.‏

فأعرض عنه وترك هدمه‏.‏

ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد وبابًا جيء به من الشام وبابًا آخر جيء به من

الكوفة كان عمله خالد بن عبد الله القسري وجعل المدينة مدورةً لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض وعمل لها سورين السور الداخل أعلى من الخارج وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وكان الحجاج بن أرطأة هو الذي خط المسجد وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصلي أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وضع بعد القصر وكان القصر غير مستقيم على القبلة‏.‏

وكان اللبن الذي يبنى به ذراعًا في ذراع ووزن بعضها لما نقض وكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلًا وكانت مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع فطلب إليه عمه عيسى ابن علي أن يأذن له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه فلم يأذن له قال‏:‏ فاحسبني راوية فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطاقات‏.‏

وكانت الأسواق في المدينة فجاء رسول الله لملك الروم فأمر الربيع فطاف به في المدينة فقال‏:‏ كيف رأيت قال‏:‏ رأيت بناء حسنًا إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة‏.‏

فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكرخ‏.‏

وقيل‏:‏ إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس‏.‏

وقيل‏:‏ إن المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله وكان أبو زكرياء يحيى بن عبد الله محتسب بغداد له مع إبراهيم ميل فجمع جماعةً من السفلة فشغبوا على المنصور فسكنهم وأخذ أبا زكرياء فقتله وأخرج الأسواق فكلم في بقال فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب‏.‏

وجعل الطريق أربعين ذراعًا‏.‏

وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة درهمًا‏.‏

وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة والروزكاري بحبتين وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلًا منهم بما بقي عنده فأخذه حتى إن خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهمًا فحبسه وأخذها منه‏.‏ذكر خروج العلاء بالأندلس وفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ولبس السواد وقام بالدولة العباسية وخطب للمنصور واجتمع إليه خلقٌ كثير فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي فالتقيا بنواحي إشبيلية ثم تحاربا أيامًا فانهزم العلاء وأصحابه وقتل منهم في المعركة سبعة آلاف وقتل العلاء وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان وإلقائها بالسوق سرًا ففعل ذلك ثم حمل منها شيء إلى مكة فوصلت وكان بها المنصور وكان مع الرؤوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور للعلاء‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عزل سلم بن قتيبة عن البصرة‏.‏

وكان سبب عزله أن المنصور كتب إليه يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم وبعقر نخلهم فكتب سلم‏:‏ بأي ذلك أبدأ بالدور أم بالنخل فأنكر المنصور ذلك عليه وعزله واستعمل محمد بن سليمان فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان ودار عون بن مالك ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم‏.‏

وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني‏.‏

وفيها عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي وولي مكانه جعفر بن سليمان فقدمها في ربيع الأول‏.‏

وفيها عزل عن مكة السري بن عبد الله ووليها عبد الصمد بن علي‏.‏

وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير وقيل سنة سبع وأربعين في شعبان‏.‏

وعوف الأعرابي‏.‏وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التميمي الكوفي‏.‏

وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي الذي يقال له مالك الصوائف وهو من أهل فلسطين بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلًا بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثًا وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة فسميت تلك الرهوة رهوة مالك‏.‏وفيها توفي ابن السائب الكلبي النسابة‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

  ذكر قتل حرب بن عبد الله

فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقًا ودخلوا تفليس وكان حرب مقيمًا بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزية وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى وحرب بن عبد الله فقاتلوهم فهزم جبرائيل وقتل حرب وقتل من أصحاب جبرائيل خلقٌ كثير‏.‏

  ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى

وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه فقيل‏:‏ إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وإمارة الكوفة ومن أيام السفاح إلى الآن فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كلم عيسى بن موسى في ذلك وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان علي وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك ليس إلى الخلع سبيل‏!‏ فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي ولم يجلس عن يسار المنصور فاغتاظ منه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي ثم لعبد الصمد بن علي ثم لعيسى بن موسى وربما قدم وأخر إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال‏.‏

وتوهم عيسى أنه يقدم إذنهم لحاجةٍ له إليهم وعيسى صامت لا يشكو ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط وينثر عليه التراب وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه فيقول له المنصور‏:‏ يا عيسى ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب‏!‏ أفكل هذا من الشارع فيقول‏:‏ أحسب ذلك يا أمير المؤمنين ولا يشكو شيئًا‏.‏

وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه‏.‏

فقيل‏:‏ إن المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة فأذن له فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى‏.‏

وقال عيسى بن علي للمنصور‏:‏ إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه فقال له‏:‏ خوفه وتهدده فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه فخاف موسى بن عيسى وأتى العباس بن محمد فقال‏:‏ يا عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر عن عنقه وهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه فهو يهدد مرة ويؤخر إذن مرة ويهدم عليه الحيطان مرة وتدس إليه الحتوف مرة وأبي لا يعطي على ذلك شيئًا ولا يكون ذلك أبدًا ولكن ها هنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا قال‏:‏ وما هو قال‏:‏ يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له‏:‏ إني أعلم أنك لا تبخل بهذا الأمر عن المهدي لنفسك لكبر سنك وأنه لا تطول مدتك فيه وإنما تبخل به لإبنك أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني كلا والله لا يكون ذلك أبدًا ولأثبن على ابنك فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك فلما اجتمعوا عنده قال ذلك وكان عيسى بن علي حاضرًا فقام ليبول فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه فقام معه فقال له عيسى بن علي‏:‏ بأبي أنت وبأبي أبٌ ولدك‏!‏ والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما وإنكما لأحق به ولكن المرء مغرىً بما تعجل فقال موسى في نفسه‏:‏ امكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي والله لأقتلنه‏!‏ فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سرًا فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه فقال له أبوه‏:‏ أف لهذا رأيًا ومذهبًا‏!‏ ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها فجعلتها سببًا لمكروهه لا يسمعن هذا أحد ارجع إلى مكانك‏.‏

فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله وموسى يصيح‏:‏ الله الله في دمي يا أمير المؤمنين‏!‏ وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكرًا والمنصور يقول‏:‏ يا ربيع أزهق نفسه والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح‏.‏

فلما رأى ذلك أبوه قال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله‏!‏ فاكفف عنه فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين‏!‏ وهذه يدي بالبيعة للمهدي‏.‏

فبايعه للمهدي‏.‏ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي‏.‏

وقيل‏:‏ إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره فشكا ذلك من فعلهم فنهاهم المنصور عنه وكانوا يكفون ثم يعودون ثم إنهما تكاتبا مكاتبات أغضبت المنصور وعاد الجند معه لأشد ما كانوا منهم‏:‏ أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله وغيرهم فكانوا يمنعون من الدخول عليه ويسمعونه فشكاهم إلى المنصور فقال له‏:‏ يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي فإنهم يحبون هذا الفتى فلو قدمته بين يديك لكفوا‏.‏

فأجاب عيسى إلى ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم وقال لعيسى في أمر البيعة فامتنع فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه وشكر لخالد صنيعه‏.‏وقيل‏:‏ بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدره أحد عشر ألف ألف درهم له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع‏.‏

وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنةً وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به فلم يفعل ولم يزل معظمًا له مبجلًا‏.‏

وكان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله وقال له‏:‏ إن الخلافة صائرةٌ إليك بعد المهدي فاضرب عنقه وإياك أن تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرته ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره فكتب عيسى في الجواب‏:‏ قد أنفذت ما أمرت به فلم يشك أنه قتله‏.‏

وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر فقال‏:‏ أراد أن تقتله ثم يقتله لأنه أمر بقتله سرًا ثم يدعيه عليك علانيةً فلا تقتله ولا تدفعه إليه سرًا أبدًا واكتم أمره‏.‏ ففعل ذلك عيسى‏.‏

فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله ففعلوا وشفعوا فشفعهم وقال لعيسى‏:‏ إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك وقد كلمني عمومتك فيه وقد صفحت عنه فأتنا به‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أل تأمرني بقتله فقتلته‏!‏ قال‏:‏ ما أمرتك‏!‏ قال‏:‏ بلى أمرتني‏.‏

قال‏:‏ ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت‏!‏ ثم قال المنصور لعمومته‏:‏ إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم قالوا‏:‏ فادفعه إلينا نقيده به‏.‏

فسلمه إليهم وخرجوا به إلى الرحبة واجتمع الناس وشهر الأمر وقام أحدهم ليقتله فقال له عيسى‏:‏ أفاعل أنت قال‏:‏ إي والله‏!‏ قال‏:‏ ردوني إلى أمير المؤمنين‏.‏ فردوه إليه‏.‏

فقال له‏:‏ إنما أردت بقتله أن تقتلني‏.‏

هذا عك حي سوي‏.‏

قال‏:‏ ائتنا به‏.‏

فأتاه به‏.‏

قال‏:‏ يدخل حتى أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه فمات فدفن في مقابر باب الشام فكان أول من دفن فيها وكان عمره اثنتين وخمسين سنة‏.‏

قيل‏:‏ ركب المنصور يومًا ومعه ابن عياش المنتوف فقال له المنصور‏:‏ تعرف ثلاثة خلفاء أسماؤهم على العين قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين قال‏:‏ لا أعرف إلا ما يقول العامة‏:‏ إن عليًا قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك قتل عبد الرحمن بن الأشعث وعبد الله بن الزبير قتل عمرو ابن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه البيت‏.‏

فقال المنصور‏:‏ إذا سقط عليه فما ذنبي أنا قال‏:‏ ما قلت إن لك ذنبًا‏.‏

قوله‏:‏ ابن الزبير قتل عمرو بن سعيد ليس بصحيح إنما قتله عبد الملك‏.‏

عياش بالياء المثناة من تحت والشين المعجمة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة ولى المنصور محمدًا ابن أخيه أبي العباس السفاح البصرة فاستعفى منها

فأعفاه فانصرف إلى بغداد واستخلف بها نخبة بن سالم فأقره المنصور عليها فلما رجع إلى بغداد مات بها‏.‏

وحج بالناس هذه السنة المنصور وكان عامله على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي وعلى المدينة جعفر بن سليمان وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي‏.‏

وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مولاه بدرًا وتمام ابن علقمة طليطلة وبها هاشم بن عذرة وضيقا عليه ثم أسراه هو وحياة ابن الوليد اليحصبي وعثمان بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم وقد أركبوا الحير وهم في السلاسل ثم صلبوا بقرطبة‏.‏

وفيها قدم رسول عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان فحضر وسليمان معه وكان قد ولد لعبد الرحمن بالأندلس ولد هشام فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان فحصل بينهما حقدٌ وغل أوجبا ما نذكره فيما بعد‏.‏

وفيها تناثرت النجوم‏.‏

وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري‏.‏

وهشام بن حسان مولى لعتيك وقيل‏:‏ مات سنة ثمان وأربعين‏.‏

وعبد الرحمن بن زبيد بن الحارث اليامي أبو الأشعث الكوفي‏.‏